كتبت/ رشا السيد علي
للتثبيت في عالمنا العربي عامة والمصري خاصة مفهوم واحد لا يختلف كثيرًا عن كونك تقف مكسورًا بإحدى الطرق النائية، تُخرج ما في جعبتك بمُنتهى الذوق ودماثة الخُلق، وتقدمه لشخص يقف بجانبك ولا يقل عنك في الذوق ودماثة الخلق شيئًا غير أن مظهره لا يوحي بذلك، فكونه يرتدي عصابة سوداء على عينه اليسرى فهذا لا يُنقص من أدبه الجم شيئًا، وكونه يحمل سكينًا أو مطواة بيده اليمنى ويوجهها نحوك مع إيماءة رقيقة بأن تُخرج ما معك من نقود وتضعها أمامه، كل هذا ليس دليلًا على كونه بلطجي من الدرجة الأولى -لا سمح الله- فلابد أن نكون مُنصفين، ربما لم يجد الرجل عملًا شريفًا غير هذا ليكسب منه قوته وقوت أطفاله، وحتى لا ننجرف أكثر في تبرير وظيفته وندخل تحت طائلة القانون فدعني أحدثك يا عزيزي عن مفهوم أخر للتثبيت يختلف كثيرًا عن هذا وذاك.
"التثبيت" ما بين البلطجة وعلم النفس
التثبيت في عالم السيكولوجي "علم النفس" وهو مرحلة غريبة يمر بها الإنسان فلا يعود بعدها كما كان قبلها أبدًا، يعيش تلك المرحلة ويتعايشها طيلة أعوامه المُتبقية، تتملكه بكل قواها وتسيطر عليه، تتغلغل إلى أعمق أعماقه وتتغذى على أجمل فترات حياته كما يتغذى النمل على السكر، فلا يستطيع الإنسان حينئذ أن ينجرف بعيدًا عنها أو يحيد عن طريقها المرسوم باحترافية كبيرة لحظة واحدة، وإذا ما قُدر سلفًا ونجح في ذلك وجد نفسه لا يصلح لشيء فما ضاع من عمره أكثر مما هو باق فيعود لتلك المرحلة مرة أخرى ولكن هذه المرة يعود بكامل رغبته، يعود عودة الجندي البائس المهزوم بعد حرب سرشة خسر فيها أغلى ما لديه.
إنه لشيء مُزعج
ومُخيف أن تمر عزيزي القارئ بهذه
المرحلة التي تُشبه إلى حد كبير الدوامة
التي تجذب أقوى وأعتى السفن فتحطمها في ثوانٍ معدودة إذ يعد التثبيت مرحلة أو منعطف يمر به بعض
الأشخاص نتيجة للتعرض لإحدى الأزمات النفسية والضغوط التي غالبًا ما يتأثرون بها
تأثر كبير مما يجعل تركيزهم المستمر ينصب على مرحلة معينة من حياتهم وبالتالي تحدث
مرحلة التثبيت عندما تظل المشكلة أو النزاع دون حل، مما يترك الفرد يركز على هذه
المرحلة ولا يستطيع الانتقال إلى المرحلة التالية.
وقد ذكر المحلل النفسي الشهير سيغموند
فرويد عندما قام بتحليل نظرية النمو ومراحل التطور عند الأطفال نوع من أنواع
" مرحلة التثبيت" التي تصيب الأطفال الذين يعانون من التثبيتات الفموية
حيث رجح أن أولئك الأطفال سيواجهون في المستقبل مشاكل في الشرب أو تناول الطعام أو
عض الأظافر ما لم يتم معالجتهم من التثبيتات الفموية كما أكد فرويد على أن الفشل
في إكمال المرحلة بنجاح، سيؤدي إلى بقاء هذا الشخص "عالقًا" أو بعبارة
أخرى، سيصبح مثبتًا في هذه المرحلة دون تطور.
أما عن مفهوم التثبيت
في عالم البلطجة فهو تثبيت من طراز أخر تثبيت أخف ضررًا من التثبيت في عالم
السيكولوجي حتى أنني أجد المقارنة بينهما غير عادلة فالأول يمنحك على أقل تقدير احتمالية
- حتى وإن كانت ضئيلة- في استرداد ما فقدته وتعويضه كأن تتقدم على سبيل المثال
ببلاغ إلى الشرطة فتقوم الأخيرة بواجبها الوطني في حماية ممتلكاتك وإعادة المتعلقات
التي سُلبت منك سواء كانت " نقود، هاتف، ساعة أنيقة، أو غيرهم من
ممتلكات" أما الأخير فهو عدو
شرس يسلبك أعز ما تملك، يسلبك ما لا
تستطيع تعويضه أبدًا ، يسلبك سنواتك، حاضرك، ومستقبلك أيضًا بل ويجعلك أسيرًا في مملكة الماضي فقط،
أسير لحب قديم عفا عنه الزمن لكنك لا تستطيع أن تتجاوزه أو تتخطاه، أسير لقرار
خاطئ اتخذته سابقًا لكن لاتزال آثاره تطاردك دون هوادة وتضربك دون شفقة أو رحمة،
وربما أسير لقرار لم تتخذه في الوقت الذي كان يتوجب عليك اتخاذه كي تحيا حياة أفضل
كَـــ تلك التي رسمتها في مُخيلتك وخططت لها دومًا، ومن هنا تنظر لنفسك في المرآة
لتجد شخصًا ضائع، مشتت فأنت لم تظفر بماضٍ جميل تتذكره ولم تهنئ بحاضر لتعشهُ ولم
تستطع اللحاق برُكاب المستقبل لتنعم به، وكأنك هشيمًا ذرته الرياح بعيدًا وأمام ناظريك تناثرت أشلائك وأنت لا حول ولا قوة.
التشخيص بداية النجاة
والغريب في الأمر أن
من يصابون بهذه الحالة، يبتعدون عن كل البشر، ويبعدون البشر عنهم، يعشقون العزلة
ويهربون بعيدًا رغم كونهم في أمس الحاجة لمن يقترب منهم، من يأخذ بأيديهم وينتشل
أرواحهم من بؤس ما يعيشون فيه من تجارب مريرة أو قرارات خاطئة وهنا يأتي دور الأهل
والأقرباء فلا يجب عليهم مقابلة البُعد بالبُعد والإقصاء بالإقصاء، بل يتعين عليهم
أن يقتربوا من هذا الشخص أكثر، ويحطمون جدار العزلة المنيع الذي أقامه بينه
وبينهم، يفتحون أمامه أبواب الأمل المُغلقة والمستعصية، ينتشلونه من غرقه ويعيدونه
إلى الحياة من جديد.
فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا
لا جُرم أبدًا في
استخدام كل أسلحتك لإنقاذ غريق، وإحياء روح كتب الله عز وجل في حياتها إحياء للناس
جميعًا وفي موتها موت للناس جميعًا، والموت ليس شرطًا أن يحدث بخروج الروح إلى
بارئها ودفن الجثمان تحت التراب فكم من أحياء يسيرون فوق الأرض لكنهم أموات!
فالموت له وجوه أخرى عديدة إحداها أن يعيش الإنسان جسدًا بلا روح، لا فرق بين ليله ونهاره، لذا على الأهل والمحيطين بهذا الشخص أن يبذلوا قصارى جهدهم في احتوائه وانقاذه من دوامة جارفة لأحلى سنوات عمره، عليهم أن يقتلوا فيه بواعث اليأس والاستسلام فإن قدر الله على أيديهم النجاح والفلاح كان خيرًا وأبقى وإن لم يُقدر لهم ذلك يتوجهون للحل الأخير، لمن أكثر منهم دراية وعلم وتخصص وهو الطبيب النفسي، ويتشاركون سويًا في إحياء نفس "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".